في الجنوب المصري وتحديدًا في أحدى قرى مدينة قوص في محافظة قنا ولد مكرم عبيد في 25اكتوبر 1861 من أسرة غنية، ولم يمنعه ذلك من أن يصبح واحد من رموز الحركة الوطنية في مصر أيام الإحتلال الإنجليزي وضرب خير مثال على تماسك نسيج الأمة فهو كما قال “اللهم يارب المسلمين والنصارى أجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن انصارًا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”
ولد مكرم عبيد لأب كان يعمل في مجال الإنشاءات وحصل على الباكوية بعد جهوده في انشاء خط سكة حديد بين نجع حمادي والأقصر، وبرغم ثراء العائلة لم يمنعه ذلك من اظهار وطنيته والدفاع عن حقوق العمال، التحق مكرم بالمدرسة الأمريكية في أسيوط ثم سافر ودرس القانون في اكسفورد وحصل على الامتياز، ثم ذهب لمدينة ليون في فرنسا وحصل على الدكتوراة.
بعد عودته من فرنسا شغل منصب سكرتير تحرير لجريدة الوقائع المصرية، ولما له من لباقة وخطابة تم تعيينه سكرتير للمستشار الإنجليزي في مصر، ولكنه لم يتهاون وحاول أن يستغل منصبه لدعم قضية مصر والاحتلال أمام الرأي العام الدولي فحمل على عاتقه هذه المهمة دون كلل أو ملل، فما كان من الإنجليز الإ أن يقيلوه من منصبه خصوصًا بعدما كتب رسالة معارضة للمستشار الانجليزي وطالب فيها بنفس المطالب التي يتمناها الشعب المصري، ليذهب ويعمل استاذ بكلية الحقوق.
وفي عام 1919 ولتأثره بسعد باشا زغلول وبسبب قوة احاديثه، انضم إلى حزب الوفد وعمل في الدعاية في الخارج ضد الاحتلال الانجليزي واطلقت عليه جريدة الوفد في هذا الوقت “الخطيب المفوه”، وتم نفيه مع سعد زغلول فنال شرف وطني كبير، واثناء فترته التي قضاها داخل حزب الوفد نشأت بينه وبين مصطفى النحاس صداقة قوية لم تنكسر الإ فيما بعد.
فما كان من النحاس باشا عندما شكل وزارته الأولى عام 1928 الإ أن يضم مكرم عبيد كوزير للاتصالات، ثم أصبح سكرتير عام للوفد في 1935، وبعد معاهدة 1936 عين كوزير للمالية وأراد أن يضع حد أدنى للاجور في مصر، وظل وزيرًا في حكومات أحمد ماهر والنقراشي.
بالرغم من انتمائه الوفدي الإ أنه انشق عن الوفد بعد خلافات مع مصطفى النحاس بسبب زوجة الاخير التي ارادت أن تبعد مكرم عن الساحة لتجعل فؤاد سراج الدين خليفة لمصطفى النحاس، وعلى ذلك تقدم مكرم عبيد بعريضة تضم المخالفات التى تدين وزارة النحاس والتي عرفت بالكتاب الأسود، ويروي فيها وقائع كثيرة عن فساد الوفديين وقدمها لمجلس النواب، وفي أحدى الجلسات طالب النائب حسين ياسين باسقاط عضوية مكرم وتم التصويت عليها فهو كما يقولون خائن للوفد ولم يعد جدير بشرف النيابة.
انتهز مصطفى النحاس الفرصة بعد أسابيع قليلة وأصدر امر عسكري باعتقال مكرم عبيد وكان أمر عسكري واجب التنفيذ بمقتضى الأحكام العرفية، ولم يدافع عن نفسه في القضية بالرغم من دفاعه المستميت عن كل المقبوض عليهم في تهم سياسية وهو الذي اختير كنقيب للمحامين ثلاث مرات كما دافع عن عباس العقاد عندما تمت ادانته بتهمة السب في الذات الملكية.
غير كتابه الأسود الذي احدث رجة زلزلت الوضع السياسي في مصر ومهدت لحركات تطهير شاملة، كان عبيد صاحب فكرة النقابات العمالية وتكوينها وتوفير التأمين الاحتماعي لهم، وصاحب فكرة الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية للدخل.
بعد انشقاقه عن الوفد وتأسيسه الكتلة الوفدية، دخل في علاقات مع الإخوان فكان السياسي الوحيد الذي شيع جنازة حسن البنا، حتى أنه –المسيحي- قد كتب مقال في مجلة الدعوة التابعة لهم ينعي فيه حسن البنا ويتحدث فيها عن علاقته مع البنا وعن حضوره جنازته، وما كان من احفاد حسن البنا كما يسمون انفسهم الإ أن يستقبلوا ابنته بالسباب ويتهموه بالعلمانية وينسوا الشخص الوحيد الذي شارك في جنازة الأب الروحي لجماعتهم.
توفي مكرم في 5يونيو 1961 وشارك في جنازته السادات في الكنيسة المرقسية في الأزبكية نيابة عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقال عنه ابراهيم فرج “لم يكن مكرم عبيد ملكًا لنفسه أو لأسرته، ولذلك فإن الذين انشقوا عن الوفد نبذتهم الأمة الإ شخصًا واحدًا هو مكرم عبيد، فقد ظل قابعًا في وجدان الأمة”
تعليقاتكم