تلك اللحظة التي يقطع فيها الطبيب الحبل السري بين الأم وابنها ومع صرخته الأولى يولد حبل جديد بين الروحين يبقى حتى وفاتهما مهما كان موعد الفراق
وحدها أمي التي لا أهتم أن أقف أمامها بكل أخطائي معلنا أنني الأسوأ في العالم، كلنا نعرف ونطمئن أننا الأجمل في عيون الأمهات، ربما ليس هناك راحة في الدنيا أكثر من أن تقف أمام أحدهم دون أن تحمل هما، ومنذ متى حملنا الهم في وجود الأمهات
يقول محمود درويش :
الفرق بين أمي والآخرين .. أن الآخرين يتمنون ألا يروني حزينًا، وأما أمي فتتمنى أن تحمل الحزن عني
منذ رحلت والدتي وأنا أستعيد دون ترتيب أو ارادة كل مراحل حياتي معها، أمي الشابة البيضاء الجميلة التي نبتت ملامحها على استحياء في وجهها، عيون ضيقة احتوت كل حنان العالم وأنف أصغر من أن يرى بالعين المجردة وفم صغير لا يتحدث كثيرا لأن العيون أخذت دوره، تتحدث بعينيها فيفهم من يحبها وهم كثر ولا يهمها الكارهين.
كنت صغيرها الذي حملته على كتفها إلى الحمام للذهاب إلى المدرسة حنى نهاية المرحلة الابتدائية وظلت تربط له حذائه حتى الصف الثاني الإعدادي، وكانت تغني وتحكي له القصص والأهازيج لتعلمه وهي التي لم تكمل تعليمها.
كانت أمي امرأة خلقها الله من رحمته
التسامح هو الشكل الاخير من أشكال الحب.
رينولد نيبور
على مدار ٨٣ عاما لم تعرف أمي سوى التسامح، كنت أثور وأغضب لتسامحها ولا تغضب مني، كانت تفقد “تكشيرتها” بمجرد تقبيلها، كانت تداعبني فيعلو صوت ضحكتها الجميلة كأحد معزوفات فرقة زفاف في الصعيد تقودهم الربابة، كانت الضحكات في روحي أمي هي وتر الربابة الوحيد.
وقفت خلفي دائما، تعاتبني وحدنا وتواجه العالم من أجلي، تنتقدني دون فرض رأي أو محاولة املائه وتدعمني قدر ما استطاعت حتى لو كان هذا الدعم في النهاية قد يصل لقطعة من الحلوى تعلن بها رضائها.
كانت لحظاتها الأسعد في الحياة حين يلتف حولها أبنائها وأحفادها فتصير ملكة متوجة على عرض من الحب، كانت أمي ومازالت وستظل لا تعرف غير الحب.
في ذاكرتي ألف حكاية فراق، أتلوها على قلبي مساء، أواسيه بها حتى لا يقتله الألم .. حتى ماتت أمي فتبخرت كلها وتعاظم الألم
الزوجة التي جاءت للحياة في مدينة القاهرة في نهاية الخمسينيات قبل أن يغادرها زوجها للحصول على شهادة الدكتوراة في منتصف الستينيات تاركة إياها ومعها ٣ أطفال وتحمل الرابعة في أحشائها كانت رغم رقتها الشديدة أشد بئسا من الرجال، لم تشتك يوما الوحدة أو احتاجت لأحد، جعلت الجميع يثق أن لديهم سندا أكثر صلابة من الفولاذ.
تلك المرأة نفسها هي التي يحزنها للغاية ألا يسأل عليها أحدهم وألا يأتي في موعد الزيارة الأسبوعي فتشكو وتطنطن لكنها تذوب بمجرد رؤيته.
أمي التي لم تحمل هم تعليمنا مبادء الحياة لكنها طبقتها بإيمان الواحد تلو الأخر حتى صار جزء من أرواحنا.
أمي التي أشتاق الأن لسماع حروف أسمي بصوتها، اشتاق إلى نومي على رجليها لتداعب بأصابعها شعري وتناديني باسم الدلع المفضل لديها، أمي التي شككت لحظة دفنها بأنها ستناديني من قبرها لألوذ بالظل بدلا من وقوفي في الشمس فهرعت إليه.
لم أحكي عن أمي بعد، ولنا في هذا عودة
أمي التي ماتت وحتى الأن لا أعرف كيف تموت الأمهات
أظنهم لم ولن يموتوا
تعليقاتكم