يغادر الطالب محمد عبد الحكم الجراحي مصر عام 33 في عهد إسماعيل صدقي متجها إلى فرنسا لدراسة الطب، تضيع أيامه في مدينة ليون لمدة 9 أشهر في بنسيون “مدام بروكيز”، حيث رفضت جامعة ليون قبول أوراقه، وبين ذكريات صاحبة البنسيون عن زوجها الجنرال الشهيد الذي ضحى بحياته من أجل الوطن، وصرامتها التي ساعدته مع رفض الجامعة على إعطاء ظهره للطب والتفرغ للأدب مولياً وجهته شطر مدينة جرينوبل، ليهبه القدر هذه المرة صحبة الدكتور دريفيه، الذي عوضه خلال عام ونيف العام عن رحيل الوالد المبكر، وصارت تلك الأمسيات التي يقضيها بصحبة الدكتور والطلبة المصريين المغتربين، والأخبار التي تحملها الصحف عن مصر فرصة لتعاطي الأدب والشعر.
حتى زار عميد الأدب العربي طه حسين المدينة في أحد زياراته الصيفية المعتادة والتقى بعبد الحكم وسمع شعره وناقشه فيه، وأشاد به، ليطلب منه الطالب المصري المغترب قبول أوراقه في كلية الآداب، جامعة القاهرة.
وتمر الأيام ويخبره أحد أقاربه بقول أوراقه، ليودع الجميع على رصيف محطة قطار جرينوبل، عائداً إلى بلاده في صباح يوم الجمعة 25 أكتوبر 1935.
وفي الـ13 من نوفمبر خرجت سيول الطلبة من أبواب جامعة القاهرة ليحتشدوا بالفضاء الواسع أمامها حتى وصل عددهم الى ما يقدر بسبعة آلاف طالب أو يزيد في مظاهرة سلمية احتجاجا على الموقف السياسي الراهن وقتها وما جنته سياسة الاستعمار على مصر.
ثم بدأ زحف الطلبة نحو القاهرة لزيارة بيت الأمة وضريح سعد زغلول واتجه معظمهم في سبيله الى ذلك ناحية كوبري الجلاء وبعد ان اجتازوا الكوبرى انضمت اليهم مظاهرة اخرى فزاد عددهم كثيرا ، ولما أرادوا اجتياز كوبري الإسماعيلية (التحرير الآن) اعترضتهم قوة من البوليس ومنعتهم بالقوة وأطلق الجنود الانجليز من قشلاق قصر النيل (مكان جامعة الدول العربية الآن) الرصاص على الطلبة فسقط عدد من الشهداء.
وكان محمد عبد الحكم الجراحي الطالب المستجد في كلية الآداب يسير خلال تلك المظاهرات رافعاً علم مصر، علم الاستقلال، ليتلقى 3 رصاصات في بطنه، لينقله زملائه إلى مستشفى القصر العيني، ليتوفى بعدها بخمسة ايام، بعد أن كتب خطاباً لرئيس الوزراء البريطاني، كانت مقدمته “إلى بريطانيا روح الشر”، وقال لزملائه على فراش الموت ” إخواني الاعزاء: انى اشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما اديته واعتبره اقل من الواجب في سبيل البلد الذى وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم”، ورحل عبد الحكم، وبقية جملة خالدة في التراث والتاريخ المصري هي “رفعت العلم يا عبد الحكم”.
******
رحل الشهيد، ومعه عشرات الشهداء ومئات المصابين في أحداث نوفمبر 35، وكالعادة لم يعاقب قاتلهم، بل ونسيهم الناس، ولو سألت 100 مصري عن عبد الحكم الجراحي لن يتذكره أحد، بينما يتذكر التاريخ والكثيرون الملك فؤاد وإسماعيل صدقي و توفيق نسيم، لأن أولئك هم من حملت كتب التاريخ المدرسي أسمائهم، وكأننا أمة اعتادت مص دماء الشهداء ونسيانهم.
تعليقاتكم