بعد تقسيم السلطة في المملكة الأمازيغية، نوميديا، بين أبناء الملك ماسينيسا، ضعفت الدولة ولم تعد بتلك القوة التي كانت عليها أيام ماسينيسا، الذي نجح في توحيدها وجعل منها قوة تقارع روما.
ظن الجميع أن نوميديا باتت تحت أقدام روما، لكن التاريخ كتب ميلاد شاب جديد سيحمل لواء جده ماسينيسا وسيوحّد مملكة الأمازيغ من جديد.
شاب متميّز
في العام 160 قبل الميلاد، ولد يوغرطة، وهو ابن مستنبعل ابن ماسينيسا، ويعني اسم يوغرطة بالأمازيغية “كبير القوم”.
شبّ يوغرطة على الفروسية وحب الصيد، وامتاز بقوة بدنية وذكاء وقّاد، ولم يكن كثير الميل إلى حياة الترف، بل كان كثير العمل قليل الكلام، ما جعله يكسب احترام قومه.
يصفه المؤرخ والقنصل الروماني ساللوستيوس، الذي كان قنصلا لروما في سيرتا، في كتاب “الحرب اليوغرطية“، قائلا: “عندما كبر كان يتمتع بجسد قوي وملامح جميلة وله فوق ذلك عقل ثاقب، لم يترك نفسه تفسد بالبذخ والكسل، بل اتبع عادات قومه، فكان يمارس الفروسية ويرمي الرمح ويسابق أقرانه في العدو..”.
ويتابع المؤرخ ذاته وصفه ليوغرطة قائلا: “كان دائما الأول أو من أوائل الذين يقتلون أسدا والحيوانات المتوحشة الأخرى، وكان يفعل الكثير وقليلا ما يتحدث عن نفسه”.
شارك يوغرطة، إلى جانب روما، في حصار نومانتينا بإسبانيا سنة 134 قبل الميلاد، إذ أرسله عمه مكيبسا.
وفي تلك الحرب، أبان الشاب يوغرطة عن شجاعة في القتال وحكمة في إسداء المشورة العسكرية، وكانت تلك فرصة تعرف فيها على كبار القوم في روما، الذين أعجبوا به، فكوّن علاقات نافذة مع أعضاء في مجلس الشيوخ.
بداية الثورة
كانت روما تضع كل ثقتها في مكيبسا، عم يوغرطة، فطلبت منه أن يثق فيه باعتباره قائدا شجاعا وصاحب رأي، لكن مخاوف مكيبسا لم تتبدّد وظل يعتبر يوغرطة تهديدا له ولولديه حفص بعل وعزر بعل، اللذين كانا يتقاسمان حكم نوميديا (نوميديا الشرقية ونوميديا الغربية) تحت إشراف والدهما.
استصعب يوغرطة قبول فكرة نوميديا مقسّمة، وهو الذي يعلم أن جده ماسينيسا وحّد هذه البلاد وجعلها قوية جدا، وراودت يوغرطة الأحلام بتوحيد نوميديا من جديد، فراح يعمل بصمت من أجل تحقيق حلمه.
كان عزربعل حاكم العاصمة سيرتا، ولاحظ يوغرطة أن توجيه ضربة للعاصمة وإعلانه بداية توحيد نوميديا سيجمع شعب نوميديا حوله.
وعلى الفور حاصر سيرتا، ولولا تدخل الرومان لاستولى عليها، ما جعله يتراجع بجنوده إلى حين تهيؤ ظروف أفضل للانقضاض على العاصمة.
بعد سنوات توفي عمه مكيبسا، ما فتح له المجال للهجوم على غرب نوميديا وكان حاكمها حفص بعل، فقتله يوغرطة سنة 112 قبل الميلاد، واستولى على الحكم هناك ولم يُعارض روما، ما جعلها تسكت عن حكمه لتلك المنطقة لكنها أبقت عينها عليه.
بعدها بسنة واحدة، قاد يوغرطة هجوما جديدا على سيرتا، ونجح في الاستيلاء عليها وقتل ابن عمه عزر بعل، عندها أدركت روما أن يوغرطة هو “ماسينيسا الجديد”، الذي سيعيد نوميديا القوية الموحّدة.
الحرب والرشاوى
بمجرد أن وضع يوغرطة يده على العاصمة، أعلن الحرب على روما، فابتلع كل المدن التي كانت تحت سيطرتها في نوميديا، ووجه نداء للنوميديين دعاهم فيه إلى طرد روما بكل ما أوتوا من قوة.
جاء في كتاب “الحرب اليوغرطية” لساللوستيوس، وترجمه المؤرّخ الليبي محمد المبروك الدويب، أن يوغرطة صاح في قومه: “إن الرومان شعب ظالم لا حدود لأطماعه، هم أعداء لمختلف الشعوب، فاليوم يوغرطة، وبالأمس كان القرطاجيون والملك بيرسي، وفي الغد سيعادون كل من يرونه أقوى منهم”.
من جهتها، أعلنت روما الحرب على يوغرطة واستمر السجال بينهما أكثر من عشر سنوات.
يقول الروائي الجزائري-الفلسطيني، كفاح جرار، صاحب رواية “يوغرطة”، إن “سياسة يوغرطة ضد روما اعتمدت على مرحلتين، الأولى تقديم الرشاوى لقناصلة روما في نوميديا، إذ اشترى ولاءهم بالذهب، وكانت التقارير التي يكتبونها عن الوضع في نوميديا تؤكّد لحكام روما أن نوميديا مستقرة، في حين كان يوغرطة يكتسح المدن واحدة تلو الأخرى”.
شراء يوغرطة ذمم قناصلة روما ورجال مجلس شيوخها، جعله يطلق مقولة “يوما تباع لمن يشتريها”، وهي مقولة خلّدها شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء في قصيدته الشهيرة “إلياذة الجزائر”.
ويضيف جرار، في تصريح لـ”أصوات مغاربية”، أن “المرحلة الثانية من المواجهة كانت الحرب، إذ أنهك يوغرطة الرومان لمدة فاقت عشر سنوات في معاركة عديدة أشهرها معركة نهر موثول، ما جعل روما تلجأ إلى أسلوب الغدر للقضاء عليه”.
الغدر والنهاية
كان يوغرطة صهرا لحاكم موريتانيا بوخوس، وكان الأخير مواليا لروما، فنصب كمينا ليوغرطة، إذ دعاه إلى موريتانيا من أجل التشاور معه حول خطط لطرد روما من نوميديا.
كان بوخوس قد اتفق مع القنصل الروماني غايوس ماريوس، على أن يسلمه يوغرطة مقابل منحه أراض جديدة في نوميديا ومزايا أخرى.
استجاب يوغرطة لدعوة صهره بوخوس وذهب إلى موريتانيا، وهناك اعتُقل وأُسر وسُلّم للقائد العسكري الروماني سولا سنة 104 قبل الميلاد.
اقتيد يوغرطة إلى روما مكبّلا، وأقيم احتفال كبير بهذا الحدث. تعرّض يوغرطة لتعذيب شديد، إذ جوّعه الرومان وقطعوا أذنيه ثم شنقوه.
يقول الروائي كفاح جرار عن أسر وموت يوغرطة: “لقد تعرض لخيانة من صهره، الذي سلمه للرومان مقيّدا، وكان انتقام الرومان فظيعا منه، فلقد جوّعوه وعطشوه لفترة طويلة ثم قطعوا أذنيه وأخذوا حلقتي الذهب اللتين كان يرتديهما ثم شنقوه”.
وخلّد شاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكرياء، بطولات يوغرطة في قصيدته “إلياذة الجزائر”، إذ قال فيه:
فجاء يوغرطة على هديه بحكم الجماهير يفشي الأمانا
وقال مدينة روما تباع فمن يشتريها فهز الكيانا
ووحّد سيرتا بأعطاف كاف وأولى الأمازيغ عز وشأنا
تعليقاتكم