خلت القاهرة من أي مظهر حيوي، فالعصيان المدني خيم على كل شيء، وأدرك حاكمها العام دومينيكو دوبوي أن هناك أمر ما سيحدث، ولم يفكر في إرسال خطاب إلى نابليون، بل فضل أن يذهب بنفسه إلى الأزهر ليلتقي الزعامات هناك ويسأل ما الذي يجري، ولم يكن يفكر أن خطواته للأزهر تقربه من الموت.
دخلت الحملة الفرنسية العاصمة المصرية في 24 يوليو سنة 1798 م، وكانت بلا جيش يحميها عقب هزيمة المماليك في إمبابة، فلجأ نابليون إلى عقد جلسة مع الأزهريين وبات كل طرف متربص بالآخر رغم إدعاءهم الرضا عن بعضهم.
من بعيدٍ كان هوراشيو نيلسون قائد الأسطول البريطاني يجوب البحار بحثاً عن أسطول فرنسا، حتى عثر عليه في أبي قير يوم 1 أغسطس سنة 1798 م، وجرت معركة بحرية ضخمة أسفرت عن هزيمة الأسطول الفرنسي، وصار جيش فرنسا محاصراً بين مطرقة إنجلترا وسندان مصر.
الأزمات تتفاقم ونابليون يسكن في منيل الروضة يخطط لوجود حل، فكان أول قرار اتخذه أن يكلف دوبوي بشن حملة من الضرائب على المصريين، وكان هذا القرار هو الشطط الذي أشعل فتيل ثورة القاهرة الأولى في 21 أكتوبر سنة 1798 م.
تحفز أهل مصر ضد الفرنسيين، فأعلنوا عصياناً مدنياً وحين ذهب دوبوي لمعرفة الذي يحدث، سمع صيحات من السيد بدر وهو يقود الحرافيش صارخين “نصر الله دين الإسلام بنصر عزيز”، فجرى اشتباك بين الطرفين في أقل من دقيقة، حتى صعد المؤذنين من الأزهر يصرخون “حي على الجهاد” ووقعت الثورة التي انطلقت من الأزهر وتحت قيادته.
خيم الارتباك على دوبوي فرجع إلى الغورية ووجد كميناً فحاول الانفكاك منه فرجع إلى منطقة بين القصرين وهناك لقي مصرعه ليكون أول جنرال فرنسي من قادة نابليون يتم قتله، فردت قوات الحملة الفرنسية الصاع صاعين وضربت الأزهر بالمدافع ثم دخلوه بخيولهم واستباحوا المسجد وشربوا فيه الخمر وسمحوا لخيولهم بأن تتغوط فيه ـ تقضي حاجتها ـ، واعتبر نابليون أن رد فعله طبيعي إزاء الذي حدث مع الجنرال دوبوي والذي دخل التاريخ المصري بهذه الحادثة، لكن كثيراً من المصادر المصرية لم تؤرخ لسيرة هذا الجنرال والذي يأتي اسمه بالعربية “ديبوي” .
دومينيكو مارتن دوبوي من مواليد 8 فبراير سنة 1767 م في مدينة تولوز جنوب غرب فرنسا، ونشأ كباقي جيله في تربية عسكرية حتى التحق في 4 نوفمبر 1783 م في الجيش الفرنسي كجندي في فوج المشاة وأنهي خدمته ليعمل تاجراً، حتى يعود للعسكرية الفرنسية سنة 1791 م، كجندي متطوع، وتقديراً لجهوده تم ترقيته إلى منصب مقدم وكان هذا نسقاً جديداً من بعد اندلاع الثورة الفرنسية.
رغم إعجاب المجتمع الفرنسي بتلك الثورة لكن دوبوي كان معارضاً لها، ولم تشفع له رتبته في أن يُعرَّض للمحاكمة العسكرية سنة 1794 م، بتهمة الإدلاء بتصريحات ضد الثورة الفرنسية.
يؤرخ جاك شرافاي في كتابه “الجنرالات” عن سيرة دوبوي بعد تلك المحاكمة، أن دوبوي أطلق سراحه تقديراً لإخلاصه في حب فرنسا رغم خلافه مع الثورة، وترقى في مناصب عديدة أهلته إلى أن يكون أهم قادة فرنسا في تحالفها مع إيطاليا، وكانت شجاعته سبباً في أن يستعين به نابليون في حملته على الشرق.
أظهر دوبوي شجاعة فائقة في معركة الأهرام يوم 21 يوليو سنة 1798 م، ضد المماليك وترقى في الجيش ونال رتبة عميد ثم تولى إدارة القاهرة وظل في منصبه 3 أشهر حتى لقي مصرعه متأثراً بجراح أصابته من ضربة رمح تحت إبطه الأيسر ومات في منزل العقيد جونوت.
تعليقاتكم