فلاحة جميلة من مصر يسقط حجابها على وجهها فتمتد يدها لترفعه عن وجهها برقة ولكن بقوة رافضة أن يحجب عنها الرؤية، تتطلع للأفق ترى حلمها حقيقة واقعة تستند بيدها الأخرى على حارسها الذي بقى شاهدا على عظمتها منذ بدأت تخطو أولى خطواتها، تتذكر يوم كانت وتحلم بيوم تعود، إنه المشهد الذي ستراه حين تنظر لرائعة المثال محمود مختار، تمثاله الأشهر نهضة مصر.
محمود مختار الرجل الذي عشق الفلاحة المصرية ورأى فيها جمال من نوع خاص، فسخر حياته لتأملها وتجسيد الجمال الذي تلمسه في بساطتها وحيويتها ورشاقة حركتها، رأى فيها مصر بأصالتها ورقتها، ومن هنا راوده الحلم، فكانت فترة صعبة من تاريخ مصر وقد أصر على تنفيذ تمثاله وعرضه في معرض بباريس ليكون أقوى تجسيد للقضية المصرية، فجمعت له مجموعة من الطلبة الداعمين للقضية المصرية المال اللازم، ونسى مختار كل شيء عن ذاته وانخرط في مهمته الوطنية وهي صنع نهضة مصر.
فكانت مارسيل الفتاة الباريسية التي أحبته تدخل إليه لتجده منهمكا في عمله، كانت تكتفي بتشجيعه دون أن تجرؤ على التصريح بمشاعرها، فهو مشدودا لما يفعل لا يرى سوى فلاحته الأثيرة.
وأنهى مختار التمثال وشاهده الوفد المصري في باريس في متحف جريفان، ونال إعجابهم، وبعد عرض التمثال في المعرض الفني العام بباريس ووجه الدكتور حافظ عفيفي عضو الوفد المصري نداء للاكتتاب لإقامة التمثال في مصر، وانتشرت الفكرة كمشروع قومي.
عاد خلال هذه الفترة مختار إلى مصر واستقبله الناس بحفاوة وبدأت التبرعات لإقامة التمثال من الأفراد والمؤسسات المختلفة والمساجد والكنائس ومصلحة السكة الحديد، وبدأت المناقشات لتحديد مادة صنع التمثال وحجمه ومكانه، وإزاء هذا الحماس قامت الحكومة برئاسة عدلي باشا يكن بترخيص إقامة التمثال وتحديد مكانه عند مدخل القاهرة.
وبدأ العمل في التمثال وأسهمت الحكومة في صنعه ولكن بعدها توقف العمل في التمثال، وفقد الجميع الأمل في استكماله، ليأتي الأمل حين دافع ويصا واصف عن التمثال في البرلمان ودعا لاستكمال إنشائه، واستجاب سعد زغلول وأسند المهمة لوزارة الأشغال.
وظل العمل ما بين توقف واستمرار حتى كتب محمود مختار رسالة لوزير الأشغال، وويصا واصف وأخبره بأن رجال الوزارة يرفضون الشركة التي تصنع التمثال مما يعطل العمل واهتم عدلي يكن بالأمر وتم التحقيق في الموضوع.
في ٢٠ مايو عام ١٩٢٨ أزيح الستار عن تمثال نهضة مصر المصنوع من الجرانيت في ميدان باب الحديد وكان أول تمثال يوضع في ميدان بمصر في احتفال حضره الملك وألقي فيه رئيس الوزراء خطبة وألقي أمير الشعراء قصيدة يحيي فيها عودة نهضة الفن المصري، وتم نقله بعدها عند حديقة الحيوان أمام الجامعة وبقى شاهدا على كل الأحداث السياسية وتعرض خلال الاعتصامات للأذى ولكن الفلاحة ظلت صامدة كما كانت دائما وستظل.
تعليقاتكم