من عام 630 م صار ممنوعاً على غير المسلمين سواءاً كانوا وثنيين أو أهل كتاب أن يدخلوا مكة، حتى نجح لودفيكو دي فارتيما بعد 873 سنة من فتح مكة ، في الذهاب إلى هناك ليس كرحالة وإنما كـ حاج، وكانت زيارته للبلد الحرام هي فاتحة لشهية أكثر من 100 رحالة مسيحي زاروا البلد الحرام كحجاج على مدار التاريخ.
الفضول والغيرة هما اللذان دفعا لودفيكو دي فارتيما نحو زيارة ستكلفه حياته لو كُشِف أمره، فلقد كان كـ مستشرق ورحالة يريد أن يعرف ما هي المنطقة المحرم عليه دخوله، وشهرة فاسكو دي جاما جعلته يتساءل ما الذي ينقصه حتى يكون مثله ؟.
كان لودفيكو دي فارتيما يعلم التاريخ الإسلامي جيداً ويعرف أنه في يوم الخميس 11 يناير عام 630 م، الموافق لـ 20 رمضان سنة 8 هجرية، فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ونزل قول الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا”، ولم يقتنع بتفسير المسلمين بأن النجاسة الوارد ذكرها في الآية ، لم تكن في أجساد غير المسلمين أو أشكالهم، بل كانت في الاعتقاد بأن هناك إله ورب غير الله أو شريك في الألوهية.
قرر لودفيكو دي فارتيما المجازفة التي كانت هي أشهر ما في حياته الغير مؤرخة من قِبَل الباحثين واكتفوا بأنه من مواليد عام 1470 م ببلدة بولونيا الإيطالية، وخاض رحلات لمصر واليمن وليبيا والشام والحجاز.
خلاف بين المؤرخين حول الأسبقية في زيارة المسيحيين لمكة، هل كان فارتيما أولهم، أم أن الرحالة جون كابوت قد سبقه خاصةً وأنهما متعاصرين، لكن المؤكد والثابت أن كابوت لم يوثق لرحلته في كتاب مثل لودفيكو دي فارتيما مما منحه لقب أول إنسان غير مسلم يدخل مكة كحاج.
دخل لودفيكو دي فارتيما وسط قافلة الحج الشامية عن طريق رشوة القائد المملوكي لقافلة الحج المتجهة من دمشق إلى بلاد الحجاز، ومنحه القائد حصانا كما سمح له بأن يرتدي لباس المماليك المرافقين لرحلة الحج، تحت اسم يونس المصري، وكان خوجة ذي النور الفارسي أحد التجار الفرس المقيمين في مكة هو الذي سهل لهذا الرحالة التجول بأريحية داخل بلاد الحرمين، وقدم له خدمات لولاها ما كان لدي فارتيما أن ينجح في رحلته.
وصل لودفيكو دي فارتيما إلى المدينة المنورة يوم 9 مايو 1503 م، وكانت أول مكان مقدس يزوره وأقام فيه 4 أيام ، وطبقاً لوصف فارتيما في رحلته فهي المدينة المغضوب عليها من الله، لأنها كانت خالية من العمارة وكلها صحاري قاحلة فضلاً عن عدم وجود موارد اقتصادية بها.
كانت المدينة المنورة مكونة من 300 منزل وبها 60 نخلة، وقد اتهم فارتيما في كتابه كل أهل المدينة بالجهل لأنهم ـ حسب زعمه ـ، كانوا يقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدفون في الهواء.
وصف دي فارتيما المسجد النبوي وصفاً دقيقاً، لكنه وقع في أخطاءٍ نتيجة لجهله ببعض الأمور أولاً، ثم لثقافته المسيحية ثانياً، فهو حدد مساحة المسجد بـ 100 خطوة طولاً و 80 عرضاً، وبه 400 عامود و 3000 آلاف مصباح، وعند باب قبر النبي 45 كتاباً عن حياته.
الجهل أوقع دي فارتيما في الخطأ حيث قال إن غرفة الدفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وابنته السيدة فاطمة، والصحيح أن النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر فقط هما المدفونان، بينما علي في الكوفة وعثمان وفاطمة بالبقيع.
أما الثقافة المسيحية التي كانت لدى دي فارتيما فظهرت حين تكلم عن منصب الخليفة، حيث وصف أبي بكر الصديق بـ “الكاردينال”، وأنه كان يريد أن يصبح “البابا” بعد موت الرسول، وعند سياق شرحه لحياة الصحابة قال إنهم تنازعوا على الحكم، ووصف المسلمين بالرعاع لأنهم يقتلون بعضهم بسبب نزاعات الصحابة.
الأمر الآخر الذي يدل على ثقافة دي فارتيما المسيحية عند كلامه عن الحج والزيارة، أن جملة الرسول صلى الله عليه وسلم التي قالها وهو يحتضر “بل الرفيق الأعلى”، جعلته يفهم أن الرسول مثل عيسى في السماء لا زال حياً، وبالتالي هاجم دي فارتيما النبي وقال “لقد تعبنا من هذه الأباطيل التي بدت من محمد”، ووصل الأمر إلى دي فارتيما لدرجة الكذب حيث قال إن هناك بئراً في المدينة المنورة حفره القديس مارك، والصحيح أنه لا يوجد شيء كهذا أصلاً وربما فهم أن بئر رومة الغفاري هو المقصود بذلك وفي هذا خطأ لأن رومة الغفاري كان مسلماً من قبيلة كنانة.
من المدينة المنورة إلى البلد الحرام قضى دي فارتيما 5 أيام مسافراً حتى وصل لمكة يوم 18 مايو سنة 1503 م، وكان خطأ قد وقع من دي فارتيما حيث قال إن المسلمين يحجون في ذكرى تضحية إبراهيم وإسحاق، والصحيح أن الحج سببه فريضة من الله لا علاقة لها بقصة النبي إبراهيم، فضلاً عن أن الأضحيات نتيجةً لتصرف النبي إبراهيم مع ولده النبي إسماعيل.
مثلما وصف دي فارتيما المدينة المنورة بالبلد المغضوب عليها من الله، قال عن مكة “البلد اللعين لوجود قحط فيها ولا وجود لشجر أو عشب”، وفي نفس الرحلة يناقض دي فارتيما نفسه حيث يقول إن بها ازدهار.
شهد لودفيكو دي فارتيما الحج وشارك فيه، ولم يستفيض دي فارتيما في وصف الكعبة كثيراً، لكنه تكلم عن المسجد وموسم الحج طبقاً لفهمه أو محاولته تقريب المفاهيم بالنسبة للقارئ الأوروبي، فهو وصف الحج بـ “عيد الغفران”، وقال عن الكعبة أنها “معبد حجري”، ووصف الحجاج بـ “الوثنيين”، ثم قال عن شيخ خطبة الحج أنه “كاهن”.
أثناء موسم الحج كاد دي فارتيما أن يُقْتَل إذ أن أحد تجار مكة شك في أمره، ولما أقسم دي فارتيما بأنه مسلم، أخذه الرجل المكي لمنزله وأخبره بأنه يعلم بعدم صدقه، وأنه قد زار إيطاليا وهو يشبه الإيطاليين، فلم يجد دي فارتيما مفراً من الاعتراف.
كان التاجر المكي يكره ملك البرتغال جواو الثاني ومانويل الأول، لدعمهما جهود البرتغاليين في عملية اكتشاف مضيق رأس الرجاء الصالح والذي أثر على التجارة، لكن التاجر كان ساذجاً، فهو صدق دي فارتيما حين قال أنه أفضل من يصنع المدافع وسيحارب ملوك البرتغال الظلمة، وبالتالي ساهم التاجر المكي في إخراجه سالماً، ولولا هذا التاجر ما كان لـ دي فارتيما أن يطبع رحلته هذه سنة 1510 م أو يظل حياً إلى عام 1517 م حيث تاريخ وفاته.
تعليقاتكم