منذ سنوات طويلة، فضح الكاتب الصحفي الكبير أحمد رجب تدني مستوى النقاد وجهلهم، حين أرسل رواية بعنوان “الهواء الأسود” إلى مجلة “الكواكب”، وقال إنها مترجمة عن الكاتب المسرحي العالمي “دورينمات”، ثم دعت المجلة عددًا من كبار النقاد ليتناولوا النص العالمي، فأشاد الجميع بها، ووصفها البعض بأنها عالمية، وتمثل نقلة في تاريخ الفن، ليعلن بعدها الكاتب الراحل أنه مؤلف المسرحية التي أشاد بها الجميع، مؤكدًا لهم أنه لم يستغرق في كتابتها سوى ساعة زمن، ليضعهم في موقف محرج أمام الجمهور، في واقعة مؤسفة، وصفت حينها بفضيحة “الهواء الأسود”.
ومع توالي السنين، ظلت الفجوة تتسع يوما بعد يوم بين النقاد من جانب، والقراء والكتاب على حدٍ سواء من جانب أخر، حتى انعدمت العملية النقدية وصارت شبه غير موجودة.
فمنذ فترة قام الكاتب والمستشار أشرف العشماوي، بإرسال قصة قصيرة لأحد النقاد الكبار الذين لايزالون على قيد الحياة، باسم مستعار أنثوي، فأخذ هذا الناقد يعدد محاسن القصة وموهبة صاحبتها، وطلب مقابلتها حتى يوجهها و”يحتضنها”!
بعدها قابل العشماوي الناقد إياه في ظروف أخرى، فعرض عليه القصة نفسها وقال له: “عايز رأي حضرتك في القصة بتاعتي عشان توجهني”، فأخذ الناقد القصة وقرأها ثم قال له بامتعاض: “لا لا مش حلوة.. ما تكتبش تاني”، قبل أن يضرب العشماوي بكلام هذا الناقد عرض الحائط، ويحترف الكتابة، حتى وصلت روايته “تويا” للقائمة الطويلة بجائزة البوكر العربية، وباعت كتبه العديد من الطبعات وحققت نجاحًا جماهيريًا جيدًا.
وحين سخر أحد المؤلفين (أدعياء الغيرة على الأدب) من الكُتّاب الشباب وأدبهم الركيك، وضرب المثل ببعض الكُتاب الكبار الذين يعشق كتاباتهم مثل الأديب الكبير صبري موسى، قام أحدهم بمحادثته عبر الـ”إينبوكس” في موقع التواصل الاجتماعي الشهير “فيس بوك”، وأرسل له فقرة أدبية قائلا أن هذه الفقرة من رواية جديدة لكاتب شاب، ونريد معرفة رأيك فيها، فقال المؤلف الغيور: “دي سيئة جدا”، قبل أن يقول له من يحدثه: “هذه الفقرة السيئة جدا من أحد أعمال صبري موسى”، فصمت صاحبنا وخرس لسانه!
فما معنى ذلك؟
معناه ببساطة أن عددًا من الأعمال الأدبية التي نراها عظيمة ونمجد أصحابها، أصبحت عظيمة لأن بعضهم أخبرنا أنها عظيمة، وصنعوا حولها هالات من التمجيد والتفخيم، حتى بات من لم يجد لها هوى في نفسه، يشعر وكأن المشكلة في ذائقته وعقليته، وأنه لا مناص من كتمان رأيه حتى لا يسخر منه القطيع، من عابدي الأصنام التي صنعها المدعين والأوصياء، وجعلوها دينا جديدا توارثته الأجيال بحجة “هذا ما ألفينا عليه آباءنا”، حتى شككنا في ذائقتنا وتقييمنا، وصرنا قوالب جامدة متشابهة في الحكم على الأعمال، ولو لم نعجب بعمل شهير لكاتب عظيم تلقائيا نستشعر أن المشكلة فينا، رغم أن أحدهم يلفظ عملا عظيما لأنه لم يصطدم بشيء ما داخله وينجح في إحداث حالة من الحراك داخليا، وهذه أبسط قواعد التذوق الأدبي.
وأقسم أننا لو نزعنا أغلفة العديد من الأعمال الأدبية الخالدة، ومحونا اسماء مؤلفيها وأعدنا نشرها لانقلبت الموازين وتغيرت الأوضاع، وتبدلت التقييمات، لأننا ببساطة انتهكنا قدسية اختلاف الأذواق، وابتذلنا مفهوم الذائقة وتنوع عقليات ومشاعر وكيانات البشر، لاسيما أولئك “الزياطين” و”كدابين الزفة” الذين روجوا على مدار السنوات الماضية المقالات النقدية وتقييمات أوصياء الأدب حتى جعلوا منها قاعدة أدبية مقدسة لا يزيغ عنها إلا هالك، رغم أن كثير من “المدعين” لم يقرأوا تلك الأعمال التي روجوا لها، لكنهم فقط يريدون أن يظهروا في ثوب المثقفين المبشرين بدين النقاد الأدبي المنزل من سماء الإبداع، وبلغ ذلك مبلغه في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تخفت الحركة النقدية بشدة بعد الألفية الجديدة.
بخلاف البعض منهم في وقتنا الحالي ممن إذا سألته ما رأيك في أعمال الجيل الحالي؟ يجيبك بكل امتعاض: “لا أقرأ لهم في الحقيقة، فلا أحد منهم يهديني روايته”!
ولا ينفي كلامي قيمة النقد وأهمية النقاد.. فلدينا نقاد رائعين حاليين لكنهم نادرين مثل الأستاذ محمود عبدالشكور الذي استمتع كثيرا بمقالاته وتحليلاته بجريدة الشروق، بخلاف كتبه الراقية التي تعلم القراء كيفية إعادة تفكيك النص الأدبي وتحليله، لكن الأمثلة الصالحة في غاية النُدرة، بينما غالبية النقاد والأوصياء على الأدب مدعين إلى حٍد بعيد، بشكل أضر بالحركة الأدبية والكُتاب والقراء على حدٍ سواء، فلتتركوا لذائقتكم العنان، ولتختاروا ما ترتاح إليه عقولكم ووجدانكم، لأن الكتابة خلقت للاستمتاع والتذوق في المقام الأول، وليس للتباهي والتفاخر، أو السير على درب الأخرين في الحكم عليها.
تعليقاتكم