المكان .. مستشفى غمرة العسكري
ينصحني الطبيب بالراحة في المسجد لأن الولادة قد تتأخر للصباح، أصلي الفجر وحيداً ثم أحاول فرد ظهري بعد يوم شاق من انتظار وصول ثاني أطفالي، يرتفع رنين هاتفي بعد أقل من نصف ساعة، أهرع لكشك الوالدة تستقبلني الممرضة حاملة طفلتي الثانية التي تعجلت الخروج ولو لساعات لتفاجئنا وكأنها منذ اللحظة الأولى قررت أن تعلن لي عن شخصيتها.
احتضنها وأكبر في أذنها ثم أتصل بأبي المريض قائلاً : مبروك يابابا جالنا فرح
تصرخ اختي الكبرى : بس مش حلوة يابابا
يرد والدي في هدوء : حتبقى قمر إن شاء الله
يرحل بعد ميلادها بـ٩٩ يوماً قبل أن تصير بدراً كما تنبأ يوم ميلادها.
***
المكان .. ملعب كرة اليد في نادي الشمس
تشكو والدة فرح من تسلقها لحوائط المنزل، ابتسم كثيراً لتلك اللمعة في عينيها لحظة تقمص دور الأب للعقاب، أعتقد أنها تملك ابتسامة اشتقتها من نهر من أنهار الجنة، شقية للغاية لا تعرف الراحة بالبلدي “هيبر أكتيف”، كان الحل أن تتبع ريم أختها الكبرى لملعب كرة اليد، تحاول التمرن على اللعبة كلاعبة مثل أختها، لكن بعد أسابيع قليلة كانت تفاجئنا لتجد نفسها بين الثلاث خشبات حارس مرمى.
يقول المدرب أن رد فعلها السريع وهذا “الهايبر” الذي لا يعجبنا يبدو مناسباً للغاية لذلك المركز، تبدأ الصغيرة ممارسة اللعبة التي ستقع في غرامها للأبد.
***
المكان .. منزلنا في الدوحة، قطر
تضطرني ظروف العمل للسفر والعمل في الخليج، بعد عام أستدعي الأسرة، تغضب فرح كثيراً وتثور، ترفض السفر لدرجة أنها تعود بشهادة نهاية العام حاملة “ملحق” فقط لتتمكن من العودة لمصر.
يوصي مدربيها أقرانهم في قطر عليها، ينصحنا أحد لاعبي كرة اليد في جيل مصر الذهبي والذي يدرب نادي الجيش القطري بإلحافها بأحد نوادي كرة اليد النسائية، يبتم ويقول : من يملك إمكانياتها سيتكفل به النادي، بل وغالباً ستعرض عليها الجنسية
تخبرني فرح كاذبة بأنها مصابة وتحتاج للعلاج والاستشفاء.. تعود لمصر بعد شهر لإجراء امتحانها ضمن الصف الثاني الإعدادي، قبل أن تعود لي مرة أخرى، أبكي كثيراً عندما تغادرني لتركب الطائرة وحدها.
تعود وتفاجئني للمرة الألف قائلة : لن ألعب في قطر، لن ألعب سوى لمنتخب مصر.
لم تكن انضمت للمنتخب، أقف حائراً أمام طفلة يعرض عليها اللعب والمال والرعاية ولا تفكر سوى في تمثيل منتخب بلادها، أبتسم من داخلي رغم ابدائي الغضب، أخبرها أنني لن أقبل بأن تحمل جنسية غير المصرية وعليها ألا تخاف من ذلك، تقطع كلامي بإصرار : لن ألعب سوى لمنتخب مصر.
***
المكان .. تونس و مصر والجزائر وقريبا بولندا
عدنا جميعاً إلى مصر، انضمت الصغيرة للمنتخب فعلاً وصارت حارس مرمى منتخب الناشئات الأول، سافرت في ٢٠١٦ إلى مونتنيجرو ومثلت بلادها للمرة الأولى، لكن هذا العام تعود لتمثل مصر في نفس البطولة – البحر الأبيض المتوسط -، تسمح التقنيات للمرة الأولى أن أشاهدها في الملعب، أضحك بصوت عال وأصفق بيدي كلما ذكر المذيع اسمها – فرح الشاذلي – أهتف كلما صدت الكرة، اقفز مكاني كلما أشاد بها، تبتسم في الملعب ذات الابتسامة التي اشتقت من نهر في الجنة، بلا مبالاة لأي خصم وثقة كتلك التي أخبرتني بها يوماً أنها ستلعب لمنتخب مصر.
ركبت الطائرة مرة بعد مرة، توقفت عن البكاء بعدما تعلمت أن لدي ابنة أثق فيها واطمئن عليها.
كبيرة رغم سنها الصغير، متمردة واثقة تعرف أين تضع خطواتها، مصابة بالشغف من رأسها حتى أخمص قدميها، تلامس التحقق والنجاح بنفس السهولة التي نلمس بها هواتفنا لحظة الاستيقاظ..
هي الأن في دورة الألعاب الأفريقية تستعد لنيل الميدالية الذهبية لتطير بعدها بأيام لكأس العالم في بولندا بعد فوزها ببطولة أفريقيا في كوت ديفوار، محققة أحلامها حلما بعد الأخر
كانت الصغيرة على حق وليس عيباً أن نتعلم من أولادنا
فاته نصف عمره من لم ير ابتسامة فرح، تلك الابتسامة التي تجبرني على التحليق مهما كنت غاضبا، صاحبة الاسم التي نالت نصيبها كاملا منه، بكل تلك الشقاوة المخبؤة داخل روحها، وزوج “عفريت” من العيون لا يتكرر كثيرا، وملامح جميلة تنتنمي إلى آل شاذلي، ولكنها تشبه أمها ايضا، وكأنها حتى في ملامحها أرادت ألا تغضب أحدا.
عصبية للغاية وكأن كهرباء مستها يوم ولادتها، أسميتها على اسم منى زكي في سهرة تليفزيونية بعنوان “زواج على ورق سوليفان”، فعشقت السينما مثلي.
فنانة حقيقية تملك موهبة مبهرة في الرسم، وهي الموهبة التي اعتبرها والدها طيلة عمره اعجازا، في الغالب ورثتها من جدها لأبيها وعمتها أماني، إلا أن حب كرة اليد غلب كل حب.
لا تحب الدراسة – ومن يحبها – لكنها تعرف كيف تنجح، لهذا لست قلقا عليها من الدنيا، خاصة وهي قادرة على صنع صداقات جديدة في كل محيط قبل أن يرتد إليك طرفك، لكنني أخشى عليها من روح الفنان عاشقة التجريب إلى ما لا نهاية.
علمتني كيف يكون فخر الأب بنجاح الابن، وكيف يكون هذا شعوراً عظيماً.
أحبك
تعليقاتكم