كنت جالسا مع صديقتي فاطمة التي ضلت طريقها للسينما والكتابة وعملت في المجال الطبي، تلك الإجازة التي حصلت عليها لتأتي من بلاد الضباب إلى مصر، لننعم سويا بجلسات موسعة من الحديث حول السينما والفن وأهلهم لتسألني ببساطة عن أغنية عرباوي لأندفع أروي لها حكاية الأغنية وكاتبها حسن أبو عتمان وملحنها حلمي بكر ولكنها تستوقفني وتقول لي “شوفت نظرة محمود المليجي على الأغنية في فيلم الزوج العازب؟”
لتريني الفيديو الذي حفظته مرارا وتكرارا، وتتوقف أمام 13 ثانية وقفت فيها كاميرا حسن الصيفي أمام وجه محمود المليجي الذي يقول كل شيء في مدة وجيزة للغاية، لتقول لي فاطمة ” أهي البصة دي يتكتب عنها مقالات” لتفتح الباب أمامي لأتذكر نظرات محمود المليجي في أدواره، تلك الطلقات التي لم تطش يوما وكانت تسكن القلب فورا، لا لتسلبه الحياة بل لتزيده حياة وجمالاً.
لنتوقف أمام تلك الـ13 ثانية التي قدمها محمود المليجي في فيلم الزوج العازب أثناء حفل الزفاف، الحقيقة أن كل ما يمكن أن تقوله شخصية المعلم سيد الحمش في لقطة وحيدة، كيف يمكن أن يهزم الرجل وما أثر تلك الهزيمة عليه، وكيف يحاول أن يستجمع شتات نفسه وفي الوقت نفسه يكشف عن كم الحب الذي كان بداخله، فكيف يمكن أنك شخصية مركبة تظهر عكس ما تبطن، وتكشف ما بداخلك فقط في نظرة تدوم على الشاشة 13 ثانية.
في رأيي إن لم يستخدم أحد نظرات محمود المليجي بنفس القدرة التي قام بها يوسف شاهين، يوسف شاهين كان يعرف خطورة ذلك السلاح المثبت في وجه العملاق محمود المليجي، السلاح القادر دوما على القتل، في عودة الابن الضال ستجد أن هناك العديد من اللقطات تخصصت في الثبات على عين محمد المدبولي ووجهه فقط لا غير.
تلك اللقطة التي يعود فيها علي ابنه الضال فيقطع الكلام مع حفيده لينظر لابنه الغائب الذي عاد، لتقول عينه كل ما يعجز لسانه على النطق به، تقول عينه كل مظاهر الفرح والفقد واللهفة، أنت ترى في عين المليجي في شخصية محمد المدبولي كل السنوات التي غابها علي، كل الأحلام التي انهارت بفعل غيابه، ترى في عينه كل شيء عن عائلة المدبولي وحزنه على ما حدث وقله حيلته وفرحته بسند حقيقي أو هكذا اعتقد، أنت ترى الفيلم في عين المليجي.
وفي الفيلم نفسه هناك لقطتان الأولى حينما كان يسال عن تلك القطة التي تلعق جرحها وكل يوم الجرح يزداد، وقتها كان يكتشف مدى النكبة التي تعيشها عائلته كان يدرك لأول مرة أنهم يجلسون على فوهة بركان كان يدرك لأول مرة ما بفاطمة “سهير المرشدي” من ألم وجراح.
واللقطة الثانية كانت في ختام الفيلم وهو يشير إلى إبراهيم أن يرحل، وينسى تلك العائلة برمتها للأبد، كان يرى كل ما بناه او ساهم في بنائه ينهار، عيناه كانت تبكي من الألم وفي نفس الوقت تنتظر الأمل في ذلك الذي يرحل.
مع شاهين أيضا في فيلم الأرض، في تلك المشاهد الخالدة حينما يجبروه على حلاقة شنبه ويعود بدون رجولته، يوسف شاهين وحسن فؤاد لم يضعا أي حوار في تلك المشاهد كانا اكتفيا تماماً بذلك السلاح الفتاك المدعو نظر المليجي، هل يمكن أن ترى نظرة رعب في العالم كله كنظرة الرعب في عين المليجي “أبو سويلم” وهو يتحرك مع الموس.
هنا رجولته ستقطع، كل الرعب والخوف والقهر في العالم يكمن في تلك النظرة، بينما القهر والعجز في تلك الدمعة التي تحجرت على جفنيه فلا هي سالت ولا هي امتنعت عن النزول هل هناك عجز أكبر من هذا؟
هل يمكن إن اختزلنا ما قام به المليجي في أفلام إسكندرية ليه والعصفور والاختيار في سطور أو حتى اقتطاع مشهد او اثنين للحديث عنهما؟ الحقيقة أن الأفلام القائمة على عيني المليجي ونظراته، تحمل كل شيء وتكشف كل شيء عن الشخصية وردود أفعالها وعلاقتها بما حولها.
لو كان المليجي هو أعظم موهبة وطاقة تمثيلية وقفت أمام كاميرا من وجهة نظري فإن أغلب طاقته الفنية هناك في ذلك السلاح القاتل المثبت في وجهه.
تعليقاتكم