عام 1801 علّق الرسام جاك لويس دافيد لوحته الجديدة على جدار الصالون السنوي في اللوفر، وفيها يظهر القنصل الأول للجمهورية نابوليون بونابارت وهو يجتاز جبال الألب ليحرر الأوروبيين من طغاتهم وينشر مبادئ الثورة، كما رُوّج آنذاك. لكن وضعية نابوليون المستحيلة فوق حصانه، والقماشة التي تطير في عالم آخر، وملامحه التي تشبه بهدوئها تمثال بطل يوناني قديم، كل ذلك بشّر بأوروبا جديدة تتوق إلى القدم، وبعودةٍ إلى الجماليات والمبادئ اليونانية والرومانية التي اعتبرها الأوروبيون أصل هويتهم.
في ذلك السياق، شكل نابوليون مركز ثقل العصر وجذب إليه المتنورين الطامحين بعالم مثالي يجمع الفضائل الأوروبية من ديمقراطية أثينا وجمهورية روما وعلمانية الثورة الفرنسية. أحد أولئك الشباب كان لودفيغ فان بيتهوفن، الذي أنهى عام 1804 سيمفونيته الثالثة وسماها «بونابارت». لكن الأخير سرعان ما نصّب نفسه إمبراطورًا، وتحكي القصة أن بيتهوفن هرع إلى مكتبه عندما سمع ذاك الخبر ليمزق الصفحة الأولى من سيمفونيته قائلًا أن نابوليون «سيظن نفسه فوق باقي البشر وسيصبح طاغية»، واستبدل العنوان بآخر غامض ومُثقل بالمعاني: «سينفونيا إيرويكا»، أي السيمفونية البطولية، ونشرها عام 1806 مع العنوان الفرعي «للاحتفاء بذكرى رجل عظيم».
كان قالب السيمفونية آنذاك ما يزال شكلًا موسيقيًا متواضعًا يُصنّع بالعشرات كتسلية أرستقراطية، خصوصًا في فيينا حيث عاش بيتهوفن وكتب سيمفونيتيه الأوليتين ضمن التقليد الكلاسيكي، وأهداهما لأشخاص من الطبقة الحاكمة. لكن عدة أشياء أخذت بالانهيار فجأة؛ أولها تلك الطبقة التي بدت مهدّدة باندلاع الثورة الفرنسية، وثانيها بيتهوفن نفسه الذي بدأ بفقدان سمعه، والمرور بتغيرات حياتية ستدفع به -وبالتاريخ- نحو رؤية جديدة للموسيقى، ستكون سيمفونيته الثالثة إعلانها الأول.
من الحركة الأولى يحذر بيتهوفن جمهوره أن ما سيسمعونه سيكون مختلفًا؛ فبدلًا من مقدمة بطيئة أو غيرها من كليشيهات العصر، يرمي بضربتين مدويتين، ثم يدخل مباشرةً في الموضوع: اللحن الأساسي الذي يسمى بـ«لحن البطل»، أو الشخصية الأولى في المسرحية، والتي سيستنزفها بيتهوفن خلال الربع ساعة القادمة، مُخضعًا إياها لمختلف أنواع التحولات الروائية.
يدخل اللحن الثاني (1:25) وهو شخصية أكثر رقة وشاعرية، ثم تصل القصة إلى مرحلة «التطوير» كما يسميها الموسيقيون (5:37)، وفيها تبدأ الشخصيات الموسيقية، بعد أن استعرضت نفسها، بالتفاعل فيما بينها. يتحول المشهد إلى معركة يعيش فيها اللحن الأول صراعًا مع نفسه، ويكاد ينتصر قبل أن ينهار إلى ضربات ممزقة (7:32). تلك التفجرات الصوتية التي يخرق بها بيتهوفن استمرارية موسيقاه ستصبح إحدى أشهر بصماته، ورمزًا لانفعالية موسيقاه وطاقتها. تنحسر العاصفة لتفسح المجال للحن جديد مثير للريبة بالدخول (7:47)، وظاهرة اللحن الثالث هذه أثارت الفضول لخروجها عن أعراف التأليف التي تقتصر عادةً على لحنين أساسيين فقط.
ومن رماد المعركة، يولد اللحن الأول من جديد بشكله الأصلي (9:42)، ويُعيدنا إلى أفكار البداية التي تكتسب معنىً جديدًا بعد المعركة، وتتطور إلى خاتمة انتصارية تُنهي الحركة بضربتين مدويتين كما ابتدأت.
بعد لحظات صمت، تفتتح الكمنجات «المارش الجنائزي»، الحركة الثانية الأشهر ربما في تاريخ الموسيقى، والتي قيل أنها تحكي قصة جندي عائد من أرض المعركة. فيها تُكشف قدرات بيتهوفن الدرامية على حقيقتها، فيستخدم الطبول الخافتة (1:07) تلميحًا إلى تقليد عسكري تُغطى فيه الطبول بوشاح أسود في مارشات الحداد، مما يعطيها مظهرًا قاتمًا وصوتًا كامدًا. أما الهبّات الصوتية المفاجئة التي تميّز بيتهوفن، فتأخذ هنا شكل التنهدات (1:21) أو العويل (2:58). كل ذلك يحوّل الحركة إلى تجربة مؤلمة لم يسبق أن كُتب مثلها في تاريخ الموسيقى، حتى الجنائزية منها، والتي ظلت قبل بيتهوفن محتواة في قوالب مخصصة لعدم صدم الجمهور الأرستقراطي، الذي لم يعتد على موسيقى تفوح منها رائحة التفسخ والموت.
لعل أكثر اللحظات سحرًا في الحركة هي تلك التي تصل فيها الموسيقى إلى قاع اليأس، ومن ثم تُشرق بشكل غير متوقع على عالم بعيد مغمور بالنور (3:20)، ربما هي روح الشهيد التي صارت في مكان أفضل، مليء بالمواساة وبطبول النصر.
لكن بيتهوفن يرمي بنا إلى الأرض مجددًا مع اللحن الرئيسي، والذي بدلًا من أن يُكمل مسيرته المهيبة؛ يتفجر بلحن جديد (5:40) تنتقل عدواه من آلة إلى أخرى حتى تتشارك جميع الأوركسترا فيما يشبه نواحًا جماعيًا يلهث في تشنجات مفاجئة. وبعد عودة اللحن وإرهاقه بالمزيد من التحولات يدخل في ذبول بطيء (11:40) حيث نسمع شذرات منه صارت بلا معنى، لا تستطيع أن تتمالك نفسها فتستسلم معلنةً موتها الأخير.
بعد الحركة الثالثة التي تُمثّل كل ما هو مضاد للمارش من ألحان راقصة وتفاؤل أربك المحللين، وصعّب من عملية تفسير السيمفونية، يدخل بيتهوفن في الحركة الأخيرة، والمكتوبة بطريقة «التنويعات على لحن»، أي عندما يأخذ المؤلف لحنًا بسيطًا ويصنع منه نسخًا متتالية مزخرفة بطريقة مختلفة في كل مرة.
لكن تنويعات بيتهوفن لن تكون مثل تنويعات الباقين، فبدلًا من أن يخضع اللحن للتنويعات قطعة واحدة، يفصل بيتهوفن اللحن عن مرافقته، ويخضع كل منهما لتنويعات مختلفة ثم يُعيد تركيبهما بأشكال مختلفة. فبعد مقدمة نارية، تبدأ الوتريات بالمرافقة وحدها نقرًا على الأوتار (0:12)، ومن ثم تدخل مباشرة في التنويعين الأول (0:44) والثاني (1:16)، وأخيرًا يدخل اللحن الرئيسي (1:46) فيتوحّد مع مرافقته معيدًا إليها معناها، قبل أن ينفصلا مجددًا في سيل متدفق من التنويعات المتداخلة.
أحيانًا يعود اللحن بمقام حزين بعض الشيء قبل أن يشرق فجأة (3:14)، أو يفسح المجال للفلوت مثلًا أن تبزغ وحدها بصولو استعراضي (3:27) قبل أن تجرفها باقي الأوركسترا، كما تعود المرافقة مع لحن عسكري جديد (3:40) يُذكّر بمارشات الجيوش النمساوية-المجرية.
في النهاية ينقطع سيل الموسيقى فجأة، وتدخل الآلات النفخية بتنويعٍ أخيرٍ وداعي (5:45)، ويتحول اللحن الراقص إلى مناجاة عاطفية مطوّلة تتصاعد تدريجيًا؛ الكلارينيت تغرد فوق الجميع بفردوسها المنفصل (6:33)، وعدة إيقاعات أخرى مختلفة تتداخل دون أن تفقد سلامها الداخلي، لتعطي الصفحات الأكثر تعقيدًا في السيمفونية. وهكذا، بدلًا من أن تكون التنويعات مُستنسخات صغيرة مزخرفة كما لدى سابقيه، أو إرهاقًا لفكرة يتم تكرارها، يرفع بيتهوفن أسلوب تنويعاته إلى مستوى جديد يكون فيها اللحن مصدر بعث مستمرًا يتصاعد نحو القمة، ويحكي قصة ما.
باغت بيتهوفن جمهوره بسيمفونية كثيفة تحتاج إلى تأمل لم يعتادوه، فاعتبروها ذات طموحات أكبر منها، وانتُقدت لطولها وتعقيدها، لكننا نعرف اليوم أن السيمفونية تحولت على يده من تسلية أرستقراطية روتينية إلى شكل ملحمي، وإلى تجربة حياتية قادرة على إغراق المستمع.
وبالتالي فإن تسخيف السيمفونية اليوم إلى مجرد هدية إعجاب لنابوليون يتناقض مع شخصية بيتهوفن ومع النص الموسيقي، الذي يفشي بمجموعة خلفيات إضافية. بحسب البعض، تعتبر ملحمة الإلياذة اليونانية إحدى المفاتيح السرية للعمل، خصوصًا وأنها كانت حاضرة في وعي أي متعلم آنذاك كنص مؤسس للحضارة الأوروبية، وأن استحضارها عند الحديث عن البطولة والفضيلة كان أمرًا شبه أوتوماتيكي سواء أتعلق الموضوع بها أم لا.
إذا أعدنا قراءة السيمفونية على ضوء الإلياذة، قد يكون اللحن الأول من الحركة الأولى هو البطل الطروادي هيكتور، واللحن الثاني هو زوجته آندروماك التي تودعه وتحاول ثنيه عن الذهاب إلى المعركة، حيث سيقابل غريمه، اللحن الثالث الغامض. بينما يتحول المارش الجنائزي إلى مشهد رثاء البطل اليوناني أخيل لرفيقه القتيل باتروكلوس.
المفتاح الثاني لفهم العمل قد يكون أسطورة بروميثيوس، وهو الإله الذي يسرق النار من باقي الآلهة ليهديها إلى البشر ويصبح رمز البطل الذي يجلب النور والحضارة إلى الإنسانية، تمامًا مثل نابوليون في عيون معجبيه. فقد سمى بيتهوفن تنويعات الحركة الأخيرة في رسائله بالـ«التنويعات البروميثية» واستخدمها في باليه سابق بعنوان «مخلوقات بروميثيوس».
لكن علاقة السيمفونية الثالثة بالنصوص اليونانية كانت أكثر تجريدًا مما نتخيل، إذ كان المؤلفون آنذاك يستلهمون موسيقاهم من المشاعر والقيم التي تحملها النصوص أكثر من أحداثها الحرفية، بعكس المؤلفين اللاحقين الذين سيتتبعون النصوص جملةً جملةً ليعيدوا روايتها موسيقيًا. خصوصاً وأن بروميثيوس والإلياذة ومئات القصص القديمة التي أُعيد إحياءها، استُخدمت لإغراق الحياة اليومية للطبقة المتعلمة بالمعاني، ولإسقاط رموزها وفضائلها على أحداث العصر، وتصعيده نحو عالم أسطوري مثالي، تمامًا مثل دافيد الذي حوّل نابوليون في لوحته إلى بطل إغريقي معاصر.
عام 1986 تبنى الاتحاد الأوربي الناشئ اللحن الختامي للسيمفونية التاسعة نشيدًا أوروبيًا، وقبله بعقود اكتسبت الخامسة رمزها للنضال الأوروبي ضد النازية بفضل بث إذاعة بي بي سي، لكن قبلهما كانت الثالثة، السيمفونية الرومانسية الأولى، والتجسيد الموسيقي الأول لروح أوروبا المشتركة وتأريخًا لثورتها المسروقة، خصوصًا المارش الجنائزي الذي سيستملكه كل على طريقته، من الراديو الألماني الذي سيبثه بعد إعلان موت هتلر، أو شتراوس الذي سيقتبس منه أثناء الحرب ليرثي أوروبا، وحتى هجمات العام الماضي في باريس حين دخلت فرنسا دقيقة صمت قبل أن يبث الراديو الرسمي المارش الجنائزي.
بعد وفاته، اكتُشفت رسالة كان بيتهوفن قد كتبها قبل بدء العمل على ثالثته، يعبر فيها بلغة منمّقة لا تخلو من التلميحات والمجازات اليونانية عن عزلته وعدم قدرته على خوض حياة اجتماعية طبيعية بسبب تزايد صممه، قائلًا أن الفن هو الشيء الوحيد الذي يمنعه من الانتحار. يرى بعض المحللين في هذه الرسالة التي تعرف باسم «وصية هايليجينشتاد» مفتاحًا لفهم السيمفونية والتجديد المفاجئ في أسلوبها. فقد يبدو لنا من المسلّم اليوم أن يعبر الفن عن ذاته ومشاعره، لكن الحقيقة أن الفنان لطالما عبر عن مجتمعه بالقوالب التي خصصها له، وأن صورة الفنان المُعذّب الذي يكسر أعراف عصره ليكتب نفسه كفرد هي تجديد جاء مع الحركة الرومانسية التي أعلن بيتهوفن قدومها بداية القرن التاسع عشر.
قد تكون السيمفونية إذًا قد استوحت بعض ملامحها من نابوليون، لكنها جردتها ووظفتها في سعي وراء معنى البطولة، بين القائد السياسي الذي سقط من عيون الناس، والشخصية الأسطورية الشعرية، والجندي المجهول المنسي، وأخيرًا، بيتهوفن نفسه، الإنسان البسيط الذي يحاول التغلب على يومه والدفع بالتاريخ إلى الأمام رغم إعاقته، والذي في طريقه إلى ذلك، يجر أبطالًا خارقين إلى واقعه ويمزج عوالم مختلفة ببعضها، ربما كمحاولة لمواجهة الاضطراب الذي يحيط به والتوصل إلى المعنى المشترك وراء كل ذلك.
تعليقاتكم