ما بين السينما والتاريخ ما صنع الحداد، السينما الروائية لها مطلق الحرية في تحريف الاحداث التاريخية وفق ما تفرضه الدراما، تلك القعدة يعرفها كل سينمائي على وجه الأرض قرر التعرض أو استلهام أو استخدام حدث تاريخي داخل فيلم روائي.
ويبدو أنه يجب علينا دائما إعادة التعريف القانوني لتذكرة السينما التي هي صورة من صور العقد فأنت تدفع مال مقابل الحصول على خدمة وتلك الخدمة هي الترفيه والمال الذي تدفعه وانت على علم تام أن ما ستشاهده على الشاشة ليس حقيقي بل هو محض تمثيل واحداث مختلقه كلها أو بعضها.
الدراما هي الحكم، هل خدمت الاحداث التاريخية الدراما أم لا؟ هنا في السينما الروائية يتم تطويع التاريخ لخدمة الدراما في السينما التسجيلية العكس يحدث يتم استخدام أساليب درامية لسرد احداث تاريخية بأعلى قدر من الدقة والصحة وفق رواية أصحابها.
مقدمة للأسف لابد منها حينما نتعرض لأي عمل تاريخي، المشاهد عموما والمشاهد المصري خصوصا يرغب دوما في أن يري على الشاشة ما يعرفه هو طالما أن الفيلم يستند على أحداث تاريخية، وينسى دائما أمرين غاية في الأهمية، الأول أنه يشاهد فيلم روائي والثاني أنه يشاهد رواية لأحدهم من المنطقي أن تكون مختلفة عن الرواية التي يعرفها هو.
فيلم الملاك الذي أخرجه أرييل فرومين فيلم جيد الصنع على الأقل من ناحية الصورة وإن ظلت هناك العديد من المشاكل داخل السيناريو تحديدا والتمثيل أيضا، ولكن الملفت للنظر أن ارييل فورمين قرر أن يتعامل مع الفيلم على أنه نسخة قريبة من الفيلم الملحمي (ميونخ) والذي أخرجه ستيفن سبيلبيرج.
في كل كادر تجد ميونخ واضحا في حركة الكاميرا في زوايا التصوير في اختيار ألوان الملابس وشكلها في السيارات في أماكن التصوير أيضا كل شيء يتجه إلى ميونخ وكأن ميونخ هو المرجعية التي تعامل معها أرييل فورمين في فيلمه الملاك، وليس الكتاب الذي أخذ عنه الفيلم.
تلك المرجعة لم تتوقف فقط عن حد الصورة بل أيضا العديد من الجمل الحوارية خاصة تلك التي تدور بين ضباط المخابرات الإسرائيلية شبيه بتلك الجمل التي كان تقال على لسان أبطال ميونخ، ذلك التأثر الشديد بفيلم ميونخ كان سلاح ذو حدين في العمل السينمائي الملاك.
بالطبع الجانب الإيجابي اننا شاهدنا صورة جيدة، بل ويمكن القول إن هناك مشاهد كانت جيدة للغاية ومتقنة الصنع بشده، ولما لا وهو (ينحت) سبيلبيرج بكل دقة بالزوايا وحركة الكاميرا وغيرها من تلك الأمور الفنية بل أيضا أسلوب المونتاج متشابه إلى أقصى درجة.
ولكن على جانب أخر افتقر الفيلم إلى أهم صفة يسعى إليها أي مخرج في العالم وهي صفة الأصلية، الفيلم الذي قدمه أرييل فورمين أفتقد بشده لوجود أرييل نفسه، الذي لم يظهر في الفيلم سوى نسخة خاليه من العمق أو الصدق من سبيلبيرج في فيلمه ميونخ.
حالة عدم التصديق التي تظهر في الفيلم يعززها أيضا لدينا نحن الناطقين بالعربية، هو اختلاف وسوء اللهجات في الفيلم، فلا يوجد سوا الممثلة الإسرائيلية مايسة عبدالهادي التي قامت بدور منى عبدالناصر هي التحدث باللهجة المصرية، بينما حتى بطل الفيلم مروان كينزاري كان يعاني بشده مع اللهجة المصرية.
هذا التنوع في اللهجات وعدم الدقة في تحدثها جعل هناك حاجز أخر بيني وبين الفيلم، ولكنه الحاجز الذي ظللت طيلة الفيلم أحاول التغلب عليه وان اعتبر نفسي مشاهد أجنبي لا اعرف العربية لاستمتع بالفيلم في المقام الأول.
ورغم أن السيناريو جاء متماسك وذو إيقاع مشوق، إلا أن هناك أزمة شديدة في حبكة الفيلم، الدافع، تلك اللحظة التي يقرر فيها البطل أن يتعاون مع دولة هي عدو لوطنه، ماذا كان الدافع، فشخصية البطل في الفيلم لما تكن تلك الشخصية اللاهثة وراء الشهوة أو حتى المال فهذا بالفعل لما يتضح.
حتى محاولة الاسقاط على العميل المزدوج البريطاني الذي حاز على أوسمه ألمانيا وبريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية لم تكن كافية، لم يبرز كاتب السيناريو الدافع وراء الأمر من الأساس، ويبدو ان كاتب السيناريو أدرك ذلك متأخرا فحاول أن يجعل الدافع هو السلام، وهو ما جاء بشكل بالفعل غير محبوك أو مصدق ليكون الدافع هو سقطة الفيلم الكبرى بلا منازع.
الملاك فيلم عن الجاسوسية استوفى كل شروط تلك الفئة من الأفلام من حيث الصورة والإيقاع اللاهث ولكنه افتقر للدافع وافتقر للمخرج صاحب الشخصية والبصمة، ليضم لعدد لا نهائي من تلك الأفلام التي تصلح لسهرة لطيفة جيدة لفيلم مسلي ليس أكثر، ولا عزاء لمن يحكم على السينما من باب التاريخ أو يستقي التاريخ من الأفلام الروائية.
تعليقاتكم