“الوالد الشقيق من يعطي دون أن ينتظر مقابل.. القاضي النزيه الذي رفض الباشوية إرضاءً لضميره ومن أجل الاستمتاع بتناول قرص طعمية في أحد شوارع وسط البلد”.. من منا لا يفخر بوجود شخصٍ كهذا في حياته.
هكذا كان القاضي النزيه محمود رشاد، أو هكذا وصفه شقيقه الأصغر أحمد زكي الملقب بـ “شيخ العروبة”.
عندما توفي والدهما تولى الأخ الأكبر محمود رشاد (وُلد عام 1854) مسؤولية تلبية احتياجات الأسرة دون كللٍ أو تقصير.
كانت مكتبة الأخ الأكبر ومؤلفاته (كنوز الذهب في التربية والأدب، رحلة إلى روسيا) خير رفيق لشقيقه الذي كان يصغره بـ 13 عامًا، مهدت له الطريق ليكون “شيخ العروبة” من أضاف للغة العربية ووضع علامات الترقيم الحالية.
لم يكن رشاد باحثًا حقوقيًا وأديبًا فقط؛ إذ عمل ضابط في الجيش، مفتش في وزارة المعارف، ورئيس لمحكمة مصر الابتدائية الأهلية.
استقال رشاد من عمله كقاضٍ؛ إثر واقعة معروفة في ذلك الوقت وهي محاكمة الكاتب الشيخ عبدالعزيز جاويش رئيس تحرير العلم بسبب موقفه السياسي ومهاجمته للاحتلال الإنجليزي وبلاط الخديوي (أغسطس 1908)، فاتهموه بنشر أخبار كاذبة وإهانة وزارة الحربية.
كانت الحكومة ورجال الخديوي ودار الوكالة البريطانية آنذاك، تريد حبس جاويش ليكون عبرة لغيره.
لكن القاضي النزيه حكم بالبراءة من تهمة نشر أخبار كاذبة وغرامة 20 جنيهًا عن التهمة الثانية، مرفقًا نص الحكم بحيثيات وأسباب تثبت أننا “أمام قاضٍ شجاع لا يخشى في الحق لومة لائم”.
استأنفت النيابة لقلة العقوبة، فأدهشهم رشاد بالحكم الثاني؛ إذ نص على براءة جاويش من التهمتين”.
الأمر أزعج رجال الخديوي والإنجليز، حالوا الضعط على رشاد ليتراجع عن الحكم الصادر، لكنه رفض التراجع وفضل الاستقالة والابتعاد عن العمل في مثل هذا المناخ الفاسد.
الفاسد يخشى أن يفضحه القاضي النزيه ويتكلم عن محاولات الضغط لتغيير نص حكم قضائي، وطلب من سعد باشا -وزير الحقانية (العدل)- وقتها أن يضغط على رشاد ويقنعه بالعودة لممارسة عمله وكأن شيئًا لم يكن، لكن القاضي أصر على الرفض.
الحكومة تصر على فسادها باستقطاب الرجل بأي ثمن لضمان ولائه وعدم حديثه عن الواقعة.
إحدى محاولات الاستقطاب كانت منحه رتبة الباشوية، لكن الرجل يدهشهم برفضه هذا العرض المغري أيضًا، بل أنه تزمر هذه المرة “إن لم يكفوا عن هذا فسأرحل عن البلد تمامًا”.
كتب رشاد عن رفضه الباشوية “كيف أقبل هذه الرتبة وأقيد نفسي، كيف أتنازل عن حريتي، ولا أتمكن كم ركوب الترام في الهواء بين الناس في الهواء الطلق.. ثم أن الباشوية ستحرمني أكل السمك اللطيف والطعمية اللذيذة بدكان الحاج حسين بشارع كلوت بك”.
القاضي النزيه فضل قرص الطعمية والسير في الهواء الطلق والسفر بين الشرق والغرب والكتابة الصحفية بجريدة المؤيد على قيود الرتبة ووجاهة السلطة والعمل في مناخ فاسد ورحل، فقط لأنه امتلك ضميرًا وكان قادرًا على قول “لا”.
المصادر: كتاب محمد فريد رمز الاخلاص والتضحية لـ عبد الرحمن الرافعي، كتاب أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة لـ أنور الجندي.
تعليقاتكم