فى بدايات القرن العشرين لم تعرف الموسيقى العربية التدوين الموسيقى، وكان أغلب التراث الغنائي ينقل سماعيًا من جيل إلى جيل، وكان المطرب يعتمد على الإرتجال بصفة أساسية فيضيف هو حلياته الخاصة، وكان العازف أيضًا يطلق العنان لخياله بالتقاسيم، وساهم دخول مصر عصر التسجيلات الصوتية فى حفظ لعدد كبير من الأدوار والطقاطيق والموشحات التى لولاها لإندثر معظمها، وبدأ ينتشر التدوين الموسيقى الذي أجبر المطربين والعازفين على الإلتزام باللحن كما هو مدون، والحقيقة أن الموسيقيون والمطربون كان يستمدوا صيتهم من قدرتهم على الإرتجال والتطريب، وكانوا يسخروا من التدوين الموسيقي كما روى فى مذكراته عازف الكمان الشهير “سامي الشوا”، ورغم التطور الحاصل فى فنون الغناء من أدوار وطقاطيق وتواشيح إلى أنه كان غناء شرقيًا خالصًا بعيدًا كل البعد عن الغناء الأوروبي.
قطار الغرب يصل إلى الشرق
فى العام 1932 أقيم فى مصر مؤتمر الموسيقى العربي الأول، بحضور العديد من الخبراء العالميين فى الموسيقى، وبعض الموسيقين المختصين بالتأليف الموسيقى والتوزيع الأوركسترالي، كان من أهم النقاط المتداولة المؤتمر، هى دراسة السلم الموسيقى العربي وعلاقته بنظيره الغربي، وطالب البعض بإدخال “البولوفونيك” أو”تعدد الأصوات المصاحبة للحن الأساسي وتوافقه فى شكل هارمونى منظم” أو فيما يعرف بالتوزيع الموسيقى، وضم بعض الاَلات الموسيقية الغربية إلى الفرق الموسيقية الشرقية، أثارت تلك النقطة جدلًا واسعًا بين مؤيدين ومعارضين، المؤيدون يبحثون عن التجديد والتطوير ويروا أن إدخال “البولوفونيك” من شأنه أن يضفى دسامة وفخامة على العمل الموسيقى، والمعارضون متمسكون بالرؤية الشرقية فى توحيد النغم وأنها الأصل فى الموسيقى العربية، وكل العناصر الموسيقية يجب أن تتبع المسار اللحنى الأساسي .الذى يقوله المطرب، وأن الاَلات الغربية دخيلة على الموسيقى العربية، وإذا تم أستخدامها ستفقدها روحها وطابعها المميز
خلص المؤتمر إلى عدة أمور أهمها كانت توصيات الوفود الأوربية، التى رأت ضرورة الحفاظ على تراث الموسيقى الشرقية، والإهتمام بالطابع الشعبي فى الموسيقى والغناء، على عكس بعض المصريين الذى كانوا يريدون السير على نفس خطى الموسيقى الأوروبية بإدخال البولوفونيك إلى الموسيقى الشرقية وتدوين الموسيقى وتحليلها بشكل علمي متطور.
لا يمكن تحديد التاريخ الفعلي لأولى المحاولات الشرقية لإدخال الأشكال الموسيقية الغربية فى الغناء العربي، لكن سنحاول رصد بعض المحاولات الأولى
لما بدا يتثنى
يعتبر موشح “لما بدا يتثنى” أحد أشهر الموشحات القديمة التى حفظت من الإندثار، ينسبه البعض إلى التراث الإندلسي، ويصر أخرون على أنه من تلحين “الشيخ المسلوب”، إستنادًا إلى أن الكلمات التى لم تستعير أى جملة مأثورة من الموشحات الإندلسية، أما اللحن فينتمى إلى مقام “النهاوند” – الذى يخلو من الربع تون الشرقي – والذى يقابله مقام “المانيير” فى الموسيقي الغربية .
اللحن جاء تعبيريًا صرفًا وهي صفة لم تكن موجودة من قبل فى الغناء العربي ودائمًا ماتنسب للأوربيين، والموشح من أكثر الموشحات التى أعيد صياغتها على يد الكثيرون، فاللحن الرائع المتفرد سهل مهمة التعامل معه هارمونيًا ووزع بشكل أوركسترالى عدة مرات لقربه من شكل الموسيقى الغربية، بل أن الغرب أنفسهم نفذوه مرات كثيرة، لا يمكن القول بأن هذا الموشح كان محاولة مقصودة لصنع موسيقى غربية، لكنها محاولة لحنية متطورة جدًا سابقة لعصرها.
أنا فيردي مصر
كان خالد الذكر “سيد درويش” معتاد الطواف على المسارح والتياتروهات لمشاهدة الفرق الغربية الوافدة إلى القاهرة والإسكندرية، وكان يطمح إلى الذهاب إلى أيطاليا لدراسة الموسيقى، لكن لم يمهله القدر لتحقيق حلمه، وعندما داعبه أحدهم بأن رأسه تشبه الموسيقى الإيطالي العظيم “فيردي” رد درويش مبتسمًا “أنا لا أقل عن فيردي، أنا فيردي مصر” .
كان سفريته الأولى إلى الشام لها تأثيرًا كبيرًا على فنه، فحفظ التواشيح والأشكال الموسيقية القديمة وأحتك بالموسيقى الكنسية والتى كان يطلق عليها الأوبرا الإلهية، فى سفريته الثانية إلى الشام حقق نجاحًا وشهرة لا بأس بها، قبل أن يعود لكى يرسخ نفسه كأعظم موسيقي مصر بعد ذلك.
ينسب إلى خالد الذكر أنه أول من أدخل الموسيقى الغربية لكى تكون جنبًا إلى جانب مع الموسيقى الشرقية، وعندما سأله “زكى طليمات” ذات مرة عن سبب تخليه عن التخت أجاب :مثلما خلعت الجبة والقفطان، ويكمل “طليمات” فيقول أن درويش كانت ألحانه تتخللها بعض الجمل الغربية فتدخل وتخرج دون أن تجرح الأذن .
يتناحر المؤرخون حول هوية “درويش” الموسيقية، فالبعض يتشدد على عروبة وشرقية موسيقى درويش وانه لم يلجأ إلى الألحان الغربية سوى فى مسرحياته فقط، والبعض يقول أن درويش أنطلق لكى يهضم الموسيقى الغربية وتألفتها، وأنه كان يحذف فى بعض الأحيان الجمل ذات الربع تون من ألحانه حتى تلائم البيانو المصاحب والذى لم يكن قادرًا على عزف الموسيقى الشرقية، ويحسب له أن أول من أدخل البولوفونيك “التعدد اللحني” لأول مرة فى الموسيقى العربية فى مسرحيات “شهرزاد” و”البروكة”، رغم أنه لم يدرس ذلك أبدًا لكن عبقريته المتفردة وسعيه للتجريب خلف مسيرة عظيمة والجميع يجمع على إختلاف الموسيقى الشرقية قبل درويش وبعده.
تعليقاتكم