ضم متحف بونابرت بالقاهرة الذي أسسه شارك جلياردو بك، على معلومات وأوراق وملقات كانت مكدسة في خزائن المتحف، والتي كشف عن بعض الجنود الفرنسيين الذين لم يعودوا إلى وطنهم مع فلول حملة بونابرت الشهيرة، بل فضلوا البقاء في الشرق واستعاضوا عن دينهم وقوميتهم بدين آخر وقومية أخرى.
ظل بعض الجنود الفرنسيين مقيمين في مصر ، واختلطوا بالشعب المصري، وأصبحوا منه، فكانوا يجوبون البلاد متنكرين، وأصبحوا في حالة من البؤس والشقاء يرثى لها، وجاء في إحدى رسائل “جلياردو بك” أن عدد أولئك الفارين بلغ المائة، حاول ثلاثة منهم أن ينضموا إلى الحجاج المسافرين مع المحمل إلى مكة المكرمة، ولكن الحراس اكتشفوا أمرهم، فحكم عليهم الوزير التركي محمد باشا بالإعدام، ونفذ فيهم الحكم شنقًا في 27شوال سنة 1216.
وكان بعض رفاقهم عازمين على اللحاق بالمحمل مثلهم للخروج من مصر والسعى وراء الرزق في مكان آخر، لكن ما حل برفقائهم جعلهم يفكرون في حياتهم، فاختبأوا في القاهرة عند اصدقاء من المصريين كانوا يعطفون عليهم ويحفظون لبونابرت جميل الذكرى.
وعلم الحاكم التركي محمد باشا ان في العاصمة فريقًا من اولئك الجنود، فرغب في استخدامهم في جيشه لما كان يعرفه عنهم من الشجاعة والمهارة، فاطلق زبانيته في أثرهم للبحث عنهم في كل مكان وعثر الجند على بعض أولئك اللاجئين فجاءوا بهم إلى محمد باشا الذي طيّب خاطرهم واغدق عليهم العطايا، وعهد اليهم بتنظيم فرقة من المتطوعين السودانيين فقبلوا، وبعد شهر واحد كانت الفرقة السودانية قد انشئت، واطلق عليها محمد باشا اسم “النظام الجديد”.
وما بلغ خبر الفرقة الجديدة مسامع بقية اللاجئين، حتى خرجوا من مخابئهم مطمئنين وأسرعوا إلى محمد باشا طالبين الالتحاق باخوانهم فضمهم الى الفرقة ورفعهم الى مضاف الضباط ولكن محمد باشا لم يحسن استخدام تلك الفرقة السودانية بجنودها الاشداء وضباطها المدربين، غير ان الجنود والضباط انقذوا حياة ولى نعمتهم، في أثناء الثورة التي نشبت في القاهرة والتي كان يذكي سعيرها في الخفاء داهية عصره محمد علي باشا الكبير.
فر الحاكم التركي من القاهرة فرافقه في فراره المخلصون له من الضباط الفرنسيين وجنودهم السودانيين، وكان على رأسهم في ذلك الوقت “الكابتن كومب” وهو المعروف باليوزباشي “سليم” بعد اعتنق الاسلام.
ويلفت الانتباه في الجنود الفرنسيين الذي ظلوا في مصر واتخذوها وطنًا والاسلام دينًا، كانوا يختارون اسم”عبد الله”.
وكان محمد علي باشا يقدر شجاعة أولئك اللاجئيين ويعجب بهم ويرغب في استخدام موهبتهم، وكان من بين المماليك الذين دعاهم محمد علي باشا إلى القلعة للفتك بهم، عشرون فارسًا من الفرنسيين، وقد أراد الباشا أن ينقذ حياة أولئك الأبطال لأنه لم يكن يخشى منهم شيئًا، فأوعز الى أحدهم باستبقاء رفاقه في احدى القاعات، وهكذا انقذهم من الموت، فما كادوا يستقرون في القاعة حتى اطلقت النيران وعلا الصياح وقضى على المماليك وقد عرف له المماليك الفرنسيون ذلك الصنيع وحفظوا له من أجله الجميل، فانضموا اليه واخلصوا له الخدمة، وظلوا طول حياتهم من أوفى الاوفياء للسيد الجديد وخاضوا غمار المعارك بقيادة أبنائه.
وعندما جاء الكولونيل سيف إلى مصر، وعهد اليه محمد علي باشا تنظيم جيشه، وجد الرجل بين الضباط والفرسان نحو ثمانين من أبناء وطنه، فكانوا له عونًا كبيرًا في القيام بمهمته والكولونيل”سيف” كما هو معلوم هو الذي أصبح فيما بعد “سليمان باشا الفرنساوي الشهير” وكان بعض أولئك الفرنسيين لا يزالون محتفظين باسمائهم الفرنسية، فحملهم سليمان باشا على ابدالها مصرية، كما انه حمل من لم يعتنق الاسلام منهم على اعتناقه، هكذا أصبح جميع أولئك اللاجئين الفرنسيين في مصر، مصريين ومسلمين.
تعليقاتكم